"أوروبا.. نموذج للقوة والصناعة والاحتكام إلى القانون"
تاريخ النشر : 2015-07-12 09:39:05 أخر تحديث : 2024-11-11 18:11:41
روافدنيوز/متابعة....
تحمل كل الثقافات والحضارات الإنسانية المختلفة صورة ما للآخر، و" الآخر" هو كل ما ترى الذات أنه مخالف لها أو مختلف عنها، والحق أن متكلمة الإسلام قد اهتدوا إلى لفظ ملائم يفيد جوانب شتى من هذا المعنى، إذ تحدثوا عن "الغير"، قاصدين المغاير للذات أو "الآخر" المختلف عنها، بل والمناقض لها، في العادات، والتقاليد، والأذواق، واللسان، والدين، وغير ذلك، وسواء قلنا عن الرحلة إنها جنس أدبي له من الصفات والخصائص ما يكفي لتمييزه عن الأجناس الأدبية الأخرى، أو قلنا عنها إنها خطاب مخصوص له منطقه الذاتي وبناؤه ومكوناته وعناصره، وهذا الخطاب يقترن بالطرافة والإفادة والإخبار والغرائبي والمعرفي والقصصي والسردي، وفي كتابه الصادر عن"رؤية" للنشر، تحت عنوان "أوروبا في مرآة الرحلة.. صورة الآخر في أدب الرحلة المغربية المعاصرة" يجوب سعيد بنسعيد العلوي في آفاق الرحلة العربية والمغربية، في محاولة جادة، عبر أربعة فصول تقع بين مقدمة وخاتمة، وفي نحو 320 صفحة من القطع المتوسط، لرصد وظائف الرحلة، ودورها في إدراك الآخر، سواء من نافذة علم النفس ، أو الفكر المعاصر في تجلياته المختلفة، ليقطع بأن إدراكنا للغير هو إدراك للذات في الصورة السالبة لها، وهو وعي للأنا في الصورة المعكوسة له، ذلك أن عملية الإدراك تلك، وتجلي الآخر في الوعي، أشبه ما يكون بالصورة التي تطالعنا في المرآة إلا أنها تكشف ما تعتبر الذات أنه الضد المخالف لها.
وكما يقول علماء الكلام فإن الصورة التي ترتسم عن "الآخر" هي المغايرة لذاتنا، ومن ثم كانت (الصورة) خطاباً مليئاً بالدلالة والرموز يستوجب قراءة تستهدف فك تلك الرموز والكشف عن الدلالات والمعاني الخفية، أي تلك التي لا يمتلك الشعور إدراكها لأنها مما يستبطنه (اللاشعور) ويخفيه ويبعده عن مناطق النور والوضوح، ومتى اعتبرنا الأمر على هذا النحو فإن أوروبا تمثل في الوعي العربي المعاصر حاملة لكل المعاني والصور التي يقدر ذلك الوعي أنها غائبة، مفتقدة عنده تارة، وغريبة غير مألوفة تارة أخرى فهي الضد الذي به يتميز الشيء تارة أخرى، وهي في كتابات مفكري"عصر النهضة" رمز القوة المادية، كبلد للصناعات المذهلة والاكتشافات الهائلة المسخرة لخدمة رفاهية الإنسان، وهي بلد القوة العسكرية التي يحفظها النظام في السلوك والصرامة في الرتب والعلاقات بين الرؤساء والمرؤوسين مع الاحتكام إلى القانون وحده، وهذا من الثوابت في الخطاب العربي الإسلامي المعاصر، وفي بلد القانون وسيادته يكون الناس سواسية، غير أن أوروبا، بلد العلم والحرية، هي كذلك بلد القوة العسكرية الغاشمة التي تستعمر الشعوب، وبلد تبرج المرأة وخروجها عن "الآداب المعتبرة" مثلما هي بلد الغرائب والعجائب كلها.
وبمطالعة التراث العربي الإسلامي عن الرحلة نجد لها مجموعة وظائف، تتعدد وتتنوع بتنوع دواعي الرحلة: فقد تكون رحلة من أجل استكمال المعرفة أو تنقيصها، كطلب ملاقاة عالم أو التماس "الإجازة" منه، بعد مناقشة العالم للرحالة واختباره لمعارفه وصلاحه، وإذن فالإجازة إذن له من تلك السلطة العلمية العلية بالجلوس إلى التدريس والفتيا وحمل القلم بالكتابة والتأليف، وتلك هي الرحلة "العلمية"، وقد تكون الرحلة من أجل الحج مع ملاقاة العلماء والزهاد والاطلاع، عينا لا خبراً، على أمصار الإسلام ومشاهده الكبرى فهي الرحلة "الحجية"، وربما كانت الرحلة سياحة روحية هدفها الوقوف على قطب صوفي أو التماس الإذن منه بلبس ما كان يعرف بالخرقة والانخراط في سلك الصوفية والتدرج في مسالك العارفين، فالرحلة "صوفية"، وربما كانت ذلك كله فالرحلة "عامة"، تجمع بين عدة وظائف وتروم أهدافا شتى، ولعل النموذج الأكمل لهذه الرحلة "رحلة ابن بطوطة"، وفي هذا كله يلتزم صاحب الرحلة بما يلتزم به الرواة والإخباريون من الصدق وتحري العدالة، فضلا عن وظيفة "الإمتاع والمؤانسة" والحديث عن (العجيب والغريب)، فلا قيمة للرحلة ما لم تكن توخيا لتحقيق الأمرين معا.
وليس البحث الخفي والظاهر عن (العجيب والغريب) بأقل شغلا لفكر الرحالة العربي منذ عصر النهضة، وما كان عند ابن بطوطة مثلا تنقلا مستمرا بين الأقوام والأجناس والعادات التي تكثر بتعدد التنقل يغدو إسهابا في التحدث عن أهل مالطة وسكان إسبانيا وأناس نابولي وجنوا ورومة والبندقية، وتجار بروكسيل ولندن، ورجال الدولة والجيش والقائمين على شؤون المتاحف والمدارس في باريز ومرسيليا.وهكذا فإن (أوروبا) تصبح مسرح الغرابة والعجب بقدر ما تكون مجالا لإدراك معاني القوة والتفوق الماديين، وتجليا لتحقيق الحرية والنصفة، وتجسيدا للتقدم والتمدن.. وبالتالي اكتشافا لمغزى التأخر والانحطاط والظلم والبعد عن المدنية في بلاد الشرق العربي والإسلامي... أخيرا يعد الكتاب رحلة ثقافية تعين القارئ في الإطلاع على أهم الكتب المتعلقة بأدب الرحلة في المغرب العربي.