وجــع الغــروب
تاريخ النشر : 2023-08-27 13:43:52 أخر تحديث : 2024-11-21 12:55:41
- عد الله... عد الله
صرخَ شناوه بأعلى صوته مستنجداً بأخيه عبد الله، بعد أن رماه الصبية بالحجارة. استنجاده ب (عد الله)
كما يلفظه شناوه ليس الأول او الأخير بل ملازماً له عند كل خطر يشعرُ به وهو يسرحُ في أرضِ الله بلباسه المهلهل وقميصه الذي يكشفُ عن جزءٍ من صدره المليء بقصص المدينة الغارقة بحكايات الجدات والامهات عن (الطنطل والسعلوة)* وابطال آخرين نسمع بهم كثيراً ولم نرهم. يذرعُ الشوارع جيئةً وذهاباً غيرَ عابئ بالاذى الذي يلقاه من صبية المحلة!!! يمرُ أمامنا بريئاً كأنه حمامة. يلاحقونه بالحجارة، يتلقاها بذراعه حتى لا تفقأ عينه أو تُصيب رأسه، تتحول يدهُ الضعيفة إلى درعٍ واقٍ لوجهه البريء، تنزف نتيجة اصطدام الحجر بها! لا لشيء جناه سوى انه مصاب بمتلازمة "داون" او "منغولي"! يلجأ الصبية الى استفزازه بأشد العبارات ألماً، تتجاوز حدود تحمله:
- ماتت أمك
يصرخُ من أعماقهِ صرخة هي الأكثرُ صدقاً في كلِ ما حوله، تمزقُ صمتَ الشارعِ وتقرّعُ اسماعَ المارين تخترقُ الجدران وترتفعُ فوقَ المآذنِ تخترقُ الاسماعَ وتنشرها الريحُ في الحقولِ وتنتقلُ الى الأرواح ثم تصعدُ إلى السموات، يتحملُ الضربَ والسخريةَ لكن لا يتحملُ تلك العبارة.
تحوله هاتان الكلمتان إلى هباء، تنقله لعالمٍ آخر، تحيله إلى كتلةٍ من الصراخِ المرّ، تخترقه كالرصاصِ تمزقُ أحشاءه تهزّهُ كشجرةٍ في مهبِ ريحٍ صرصر، كان البعضُ يتلذذُ برؤيتهِ يتعذب فينطقها أمامه بعد أن يناديه باسمه أولاً، امعاناً بالقسوة:
- شناوة... ماتت أمك
ليتعالى صراخه، عندها يشعر بالغبطة، متلذذاً بعذاب شناوة، وهو يرى كميةَ الألمِ التي تجتاحُ جسده المنهك. يتعاطف معه البعض محاولاً أن يمنعهم من الإساءة اليه، لكن ذلك لا يعني انه في مأمن من اولئك الذين لفظتهم أقبية البيوتِ وولدوا في ليلٍ قائظٍ بحضورِ كلِ ابالسةِ وشياطين الجن ليكونوا مسوخاً آدمية! يتقافزون مهللين غارقين في ضحكاتهم يؤدون رقصاتِ الشرِ وكأنهم لم يجدوا شيئاً آخرَ يقتلون به فراغهم سوى غرز النصال في ذلك الجسد النحيل!
شناوة نقي جداً، يختلف عن الآخرين، لا أعرف سرَ انشدادي إليه! لم أجلس قربه أو أتقرب إليه خوفاً منه بعد أن سمعتُ من يصفه بالجنون وأنه عدواني الطباع، لكن سلوكه لا يوحي ذلك. كان وادعاً هادئاً الا إذا استفزه أحدهم فيلجأ كعادته إلى الصراخ أو الى أقرب حجر اليه فيأخذه ملوحاً به دفاعاً عن نفسه، ولم يصوبه يوماً باتجاه أحدٍ ممن كانوا يناصبونه الخبث والإساءة.
مع غروبِ كلِ شمسٍ تبدأ رحلةُ امهِ، تجوب أم عبد الله الازقة بقامتِها الطويلةِ الفارعةِ وعباءتها السوداء، التي تَحوّلَ لونُها إلى لونٍ آخر يصعبُ تحديده أو إيجاد صفة له نتيجة الاستخدام الطويل وأشعة الشمس التي تخللتْ كلَ خيوطها، باحثةً عن شناوة، لتعودَ به من مشوراهِ وطوافهِ اليومي هائماً باحثاً عن شيءٍ لا أعرف كنهته بينَ أزقةِ المدينة!
- هل رأيتم شناوه؟
سؤالها المعتاد لكلِ من تراه في طريقها، تُقلبُ نظراتها يميناً وشمالاً باحثةً عن ذلك الطفل الذي لم يكبرْ يوماً رغم نمو جسمه وتركتْ متلازمة "داون" صفاتها المميزة عليه. شناوه عنواناً مهماً لا يفارقُ الذاكرة.
تعودُ ام عبد الله من رحلتِها اليومية ممسكةً بيده مطرقة هامتها التي أثقلتها هموم الأم المبتلاة بمثله، مشغولةً بمعالجةِ جروحه. كانت عالَمَهُ كله، تشغلُ تفكيره ولا تنفكُ هي الأخرى من متابعته والبحث عنه، كأنما خُلقتْ من أجلهِ فليس له الا هي في عالمه الصغير الذي لا يتجاوز عددَ الشوارعِ المحيطةِ ببيتهم.
وفي يومٍ لم ينتظره، لم يتوقعه ولم يمر بخاطره، لم تخرجْ بحثاً عنه كما اعتادتْ كلَ مساء!!! بحثَ عنها في وجوه المارة، افتقدها بين الأقارب والأهلِ الذين ملأوا البيت بعد أن اعاده الجيران اليه من دونها. نواح النادبين من عائلته يؤكدُ عدمَ وجودِها رغمَ أنها كانت هنا في الأمس وقبله واليوم الذي سبقه، مازالَ يشمُ رائحتَها تملأ المكان، في ملابسها السوداء الملقاة على السرير. افتقدها الغروبُ ودروب المحلة وهي تبحثُ عنه وعن نفسها ودموعها التي تغسلُ تجاعيدَ وجهها من غبارِ يومِها المشابه لإمسها رامياً بثقله على كاهلِها.
رحلتْ عنه بعد ان خرج من البيت كعادته، لم يودعها، لم تحتضنه ولم تمسح خده الشاحب مع غروب كل شمس. لم يدخل جوفه إلا الهواء الذي يتنفسه، ادارَ وجهه في وجوه المحيطين به في زوايا البيتِ المظلمةِ فلم يجد إلا بقايا ظلِها المُخيّم على البيتِ يحيطُ به في كلِ مكان. رفضَ كلَ محاولاتِ إقناعه بتناولِ الاكل منذ تلك اللحظة.
ثلاثة أيام مضتْ على قراره بعد رحليها.
انتهى كلُ شيء بتوقفِ قلبِها عن الخفقانِ ولم يَعُد العالمُ يعني له شيئاً فانقطع عنه. لم يستوعب هذه الكذبة، كان يسمعها يومياً، ولم تكن حقيقة، سيجدها بعد أن لفت اغلب دروب المحلة، مع حلولِ أولِ خيوطِ الظلام تنتظره، تبحثُ عنه، تضمه اليها، تربتُ على كتفهِ، تداوي جراحه بعد أن تُمرر يدها على تقاسيمِ وجههِ للاطمئنان عليه. لن تتركه أمه وحده، لا تغادر عالمه ولا تموت من دونه، سيتعلقُ بعباءتها يُعانقها يَذرفُ الدموعَ لتأخذه معها كما كان يفعل في طفولتهِ عندما تذهبْ إلى السوقِ، يلفُّ يديه حولُ جذعِها النحيلِ يحاولُ العودةَ اليها كما كان قبل أن يولد!!!
ثلاثة أيام تطوف حوله لم تفارقه، يراها لكنها لا تتقرب منه او تاخذه اليها، لم يدخل جوفه شيء منذ تلك اللحظة ونحيب اخواته يتسلل الى كل زوايا البيت ويسبب دوياً هائلاً في اذنيه. غارتْ عيناه في محجريهما ورجعَ رأسهُ إلى الخلفِ متكئاً على الجدارِ فاتحاً فمه مع ابتسامةٍ غريبةٍ عَلتْ محياه وسقطتْ يدهُ من على ركبته وانسلتْ روحه إلى السماء مفارقةً جسده المتعب متعلقةً بعباءتها السوداء. تصلّبَ جسدهُ اللدن على درجاتِ سُلمِ الدارِ الصاعدِ إلى فوق حيث تنتظره روحُها، فكان له ما أراد.
* (الطنطل أوالسعلوة) ابطال القصص الخيالية التي تُروى على لسان الجدات والامهات قبل النوم في بعض مدن العراق وخاصة الجنوبية منها. الكاتب.
المصدر: الدكتور فلاح عبد الحســن