كورونا والعالم
كورونا يرسم ملامح العالم من جديد
فلاح الناصري - تاريخ النشر : 2020-05-19 11:56:57
فلاح الناصري...لقد تغيرت معالم عالمنا الذي نعيشه، ويجب على الجميع تقبل هذا الأمر ورفع هكذا شعار، فأن أغلب المفكرين والمطلعين بالشأن السياسي، حذروا وقالوا بالحرف الواحد " أن التغيير القادم سيكون هائلاً "؛ وأن عالم ما بعد كورونا لن يكون كسابقه بكل المعطيات والثوابت التي عرفناها. من هذا كله سنحاول التحدث هنا عن سمات هذا العالم الجديد الذي أظهر ملامحه، فيروس بالكاد تلتقطه المجاهر والعدسات المكبرة والأجهزة فائقة التطور، لنتمكن من صياغة سياسات مناسبة للتعامل مع هذا المستقبل المجهول أو الغامض الذي سيفرض علينا قوانينه شأنا أم أبينا، وسوف نحاول أيضا التحدث عن الانعكاسات الاجتماعية والاقتصادية والإستراتيجية الرئيسة لوباء كورونا على مستقبل العالم.
لنعترف ببداية الأمر وأن نتفق على أن التبعات الاجتماعية لكورونا تعتبر أكبر حجماً وأعمق وتأثيراً من تبعاته الاقتصادية، خاصة في المجتمع الغربي ، فهناك المجتمعات يعيش أفرادها حياة ناعمة ومنضبطة ومستقرة الى حد كبير، ولم يتعرضوا للاختبارات التي سببتها تقلبات الحياة، فهناك الفرد أكثر هشاشة من الناحية النفسية، ومع طغيان النزعة الفردية في هذه المجتمعات قد تضعف "المناعة النفسية" للفرد الذي يشكل نواة المجتمع، ليصل أثر الذعر والإحباط إلى أبعد من الأفراد، بل يتخطى هذا الحد ويصل لدى الحكومات والقيادات.
هذا على الصعيد الإجتماعي، ولو توغلنا قليلاً وإتجهنا صوب الاقتصاد، لظهر لنا ما هو اخطر تأثيراً، وهذا ما تؤكده التقارير العالمية ومنها تقرير الأمم المتحدة الذي شدد على أن جائحة كورونا سيكون لها آثار هائلة وطويلة المدى على الاقتصاد العالمي واقتصاد الدول على السواء. فضلا عن صندوق النقد الدولي الذي صرح عبر تقييمه للنمو المتوقع لعامي 2020 و2021، بأن العالم قد دخل مرحلة كساد أسوء من تلك التى شهدها العالم عام 2009.
كل التقارير تؤكد، أننا نتجه إلى اقتصاد عالمي عاجز ومريض ومثقل بالديون، مع احتمال استمرار هذا الضعف أو توقف التدفقات النقدية للشركات والدول، في ظل وجود شركات ودول أصبحت عاجزة عن سداد أقساط الفائدة، فضلا عن التداعيات الخطيرة المصاحبة لهذا كله ومن أهمها ما يتعرض له العالم من إنخفاض الإنتاج وارتفاع معدلات البطالة والركود الاقتصادي، وقد بدأت ملامحه في الظهور عبر إنخفاض أسعار النفط إلى مستوى كبير ليهدد شركات النفط التي تسعى لسداد ديونها؛ وكذلك ليهدد الدول المصدرة للبترول التي تعتمد على عوائده في شراء احتياجاتها، أضف إلى ذلك بعض التقارير التي تشير إلى أن كورونا قد دفع بشركات ضخمة نحو الإفلاس نتيجة لإنخفاض الأرباح وتزايد الديون.
وبعيداً عن البعدين السابقيين، فأن فكرة الاستعمار الجديد هي الأخرى قد تغيرت، وأصبحت الدول التي تبحث عن مصادر دخل عبر الحروب وخلق النزاعات والسيطرة على الموارد، تعمل اليوم على تغيير بوصلة هكذا نزعة، وأصبحت تبحث بشكل جدي عن ولاءات لا خيارات عسكرية واستثمار أموال في حروب لا يُعرف مدى نجاحها من فشلها، فقد جعل فيروس كورونا تلك القوى مشغولة بنفسها، إلى حد كبير، ودراسة السبل الكفيلة في خلق موازنة بين ما حل بالعالم من مستحدثات والوفاء بالتعهدات الدولية بين الحلفاء.
أن ما يمر به العالم من أزمة حقيقية بكل المقاييس ، قد قلل من تطلعات الدول الاستعمارية التي تعتاش على الصراعات وقلل من قدراتها تلك ؛ فالجيوش انشغلت بمجابهة الوباء داخليا، وأن الخطر داهمها وشن هجومه، وأن عزلة الجيوش جعلت الأمر أكثر صعوبة مع انتشار الوباء داخل ثكنات ومواقع تلك الجيوش، وخاصة ما حدث مع حاملات الطائرات، قد حد بشكل كبير من سطوتها العسكرية الخارجية، ويكفى أن نشير هنا إلى ما قامت به العديد من هذه القوى من سحب قواتها من الخارج وعلى سبيل المثال الإجراءات التي اتخذتها أميركا من سحب لقواعدها من المناطق التي تشهد صراعات كالعراق وسوريا واستعانت بالمناطق الأكثر أمناً.
وعليه، فأن من المتوقع أن تتقلص الأطماع الاستعمارية للقوى الكبرى لصعوبة تحقيقها. كما أنها قد صارت أكثر حاجة إلى التعاون والتكاتف لتحقيق نمو اقتصادي أفضل. كما أن الخيار العسكري في حل نزاعاتها، أو تحقيق أطماعها، قد صار أبعد مما كان عليه في أي وقت مضى.
أن هكذا متغيرات توفر فرصة نادرة لصياغة نظام عالمي جديد أكثر عدلاً وإنصافاً، ربما ، إذ إن التفاوض في هذه الحالة لن يكون وفق آلية التفاوض بين منتصر ومهزوم، كما كان معمول بها ، بل سيكون بين مهزوم وأشد إنهزاماً.
نعم وبكل ثقة أقولها : أن الوضع هذا يوفر فرصة نادرة للعالم النامي للضغط بقوة من أجل صياغة نظام دولي أكثر عدلاً من الناحية الاقتصادية والإستراتيجية ويقلل من خطورة إفتعال الحروب، وقد يصل الأمر الى إستبدال بعض الزعامات التي تسيطر على العالم.
المصدر: بغداد