غزة
غزة .. "استراتيجية الخروج"
الكاتب عصمــت منصور - تاريخ النشر : 2021-05-20 18:37:02
جرت العادة في كل جولات جيش الاحتلال العدوانية السابقة على قطاع غزة أن تكون إسرائيل الطرف الذي يبادر إلى فتح جبهة المواجهة، والانطلاق من اختيارها للحظة البدء التي لا توحي فقط بالتفوّق والإمساك بزمام المبادرة، بل تضمن تسجيل نقاط لصالحها أمام رأيها العام، والظفر بصورة انتصار رمزية، تجعل مهمتها بعدها البحث عما يطلق عليه المعلقون العسكريون الإسرائيليون "استراتيجية خروج"، تثبت ما تحقق في بداية الجولة.
حُرمت العملية العسكرية التي يشنها جيش الاحتلال حاليا من هذه الميزة، لا بل إن مبادرة كتائب القسام باستهداف غلاف القدس قلبت المعادلة رأسا على عقب، وجعلتها الطرف المعني بالبحث عن "استراتيجية خروج" تحفظ لها المكاسب المعنوية والسياسية والاستراتيجية التي حققها في الضربة الأولى.
لم تكتف المقاومة في غزة بالإمساك بزمام المبادرة، بل إنها قصدت أن تمعن في إذلال نتنياهو ومنظومته الأمنية من خلال تحدّيها، وتحديد موعد إطلاق الصواريخ، والإعلان عنه مسبقا، وشن حرب نفسية أظهرت تفوقا إعلاميا وقدرة ضبط عالية مرتبطة بهرمية قيادية قادرة على العمل في أصعب الظروف وضبط إيقاع الجبهات المختلفة، وبين العسكري والسياسي، وهو ما فاقم من أزمة جيش الاحتلال الذي ظهر أمام رأيه العام عاجزا، ويُجرّ جرّا إلى المواجهة التي يذهب إليها بشعار عام وفضفاض، هو استعادة قدرة الردع، وتوجيه ضربه موجعة للمقاومة، من دون تحديد أهداف واضحة أو قابلة للتطبيق.
ستلعب الأزمة السياسية الإسرائيلية الداخلية دورا في طبيعة إدارة الحرب، وتوقيت التوجه الجدّي نحو البحث عن "استراتيجية خروج"
من ميزات هذه الموجة أيضا أنها جاءت في ذروة هبة شعبية اجتاحت القدس، ومنها امتدت إلى مدن الداخل والضفة الغربية وقطاع غزة، بحيث أعادت فرض قضية القدس على جدول أعمال العالم، ونجحت في استقطاب تعاطف وتأييد معظم دول العالم التي دانت القمع الوحشي الذي تمارسه شرطة الاحتلال ضد المتظاهرين الصائمين العزّل في ساحات المسجد الأقصى والبلدة القديمة، وهو ما أثار علامات سؤال حول مصير هذه الهبّة بعد انتقال المواجهة من الشارع وقلب المدن وبؤر الاحتكاك إلى الأجواء التي تلبّدت بالصواريخ التي تقابلها مدفعية وسلاح جو الاحتلال.
ليس الجدل هنا نظريا فحسب، ولا يأتي من باب المناكفة السياسية، بل هو نابع من تجارب ماضية شبيهة، كان يغيب فيها أحد الشكلين، العسكري والشعبي، ولم يسبق أن اجتمعا معاً، ولكن ما يمكن أن يلفت الأنظار، وهو ما غاب عن كثيرين، أن هذه الموجة جاءت تتويجا للهبّة، وإسنادا لها، وإننا قد نكون شهودا على تجربة كفاحية جديدة تتزاوج فيها الأساليب، ويسند كل واحد منها الآخر، بحيث تشكل المقاومة الظهر الداعم للهبّة الشعبية. في المقابل، يقصر تكاتف هذه الهبّة واشتدادها من عمر العدوان. ومن السابق لأوانه الحكم على هذه التجربة، لكن ما يمكن الجزم به، ومنذ أول لحظة، أن قواعد الاشتباك توسعت، وأن معادلة القدس، بثقلها ومكوناتها، أصبحت جزءا من قواعد الاشتباك الجديدة، وأن استمرار القصف الإسرائيلي ولو لأشهر، لن يغير هذه الحقيقة.
نتنياهو غير متعجل لإيقاف الحرب على غزة، وهو المستفيد من تصعيد الأجواء
ستلعب الأزمة السياسية الإسرائيلية الداخلية دورا في طبيعة إدارة هذه الموجة، وتوقيت التوجه الجدّي نحو البحث عن "استراتيجية خروج"، ذلك أن نتنياهو غير متعجل، وهو المستفيد من تصعيد الأجواء، لأن هذا سيقطع الطريق على حكومة نفتالي بينيت/ لبيد التي تستند إلى أصوات منصور عباس وقائمته، كما أنه يقلل من هامش مناورة المذكور وقدرته على تحدّي مشاعر جماهيره، وعدم التماهي مع برنامج حكومة يمينية يقودها نفتالي بينيت، في الوقت الذي تنتهك فيه قوات الشرطة حرمة الأقصى في الشهر الأكثر قداسة للمسلمين، ويدكّ فيه جيش الاحتلال قطاع غزة بالصواريخ. إسرائيل التي لا تستطيع أن تعترف بسلطة "حماس" في قطاع غزة، ولا تسمح، في الوقت نفسه، بسقوط هذه السلطة، لم تبخل بأي جهدٍ من أجل إبقائها قائمة (ورأسها فقط فوق الماء) كونها لا تملك استراتيجية واضحة ومحدّدة عسكريا، للتعامل معها ومع التهديد الذي تمثله، ولا تملك سيناريو لليوم التالي (إلى ما بعد اجتياح القطاع إذا ما قرّرت ذلك)، لتبقى استراتيجية الخروج من كل موجه عنف جديدة هي الاستراتيجية الوحيدة الممكنة.
كل هذه العوامل مجتمعة تجعل "استراتيجية الخروج" أكثر تعقيدا، وترجح إطالة أمد المواجهة إلى أن تجد إسرائيل والمقاومة، كل على حدة، اللحظة النادرة والخاطفة التي تضمن لهما تحقيق خروج آمن سياسيا وإعلاميا، وتحقيق مكاسب تبرّر العودة إلى ما قبل الموجة الحالية التي لن تنتهي من دون أن تزيح خطوط الاشتباك في جولات الصراع المتعاقبة، قليلا إلى هذا المنعطف أو ذاك.
المصدر: عصمت منصور