«كل شيء إلا كركوك»
مدير الموقع - تاريخ النشر : 2014-07-03 08:43:45
بقلم غسان شربل
ادخل العامل كأسين من الشاي. وضع الاول امام السيد الرئيس والثاني امام ضيفه. سارع صدام حسين الى تبديل موقعي الكأسين. كان يريد القول لمسعود بارزاني ان الشاي ليس مسموما وانه لا يغدر بضيوفه. كان ذلك في 1991. اي بعد سحق انتفاضة الاكراد، وبعد سنوات من حملة الانفال وقصف حلبجة.
كان اللقاء صعبا ورهيبا. قال صدام لضيفه: «اعرف انك اتخذت قرارا صعبا». رد مسعود: «جئتك سابحا في بحر من الدم لكن اذا كانت هناك فرصة لحل مشرف فانني مستعد». وكان يشير الى مقتل 180 الف كردي، بينهم ثمانية الآف من عشيرته وثلاثة من اشقائه. لنترك تفاصيل ذلك اللقاء. ما يعنينا منه اليوم جملة مذهلة فاجأت الزائر نفسه. قال صدام: «نحن لا ننكر ان كركوك كردية لكننا لا يمكن ان نعطيكم اياها لانها قاعدة جاهزة لاعلان دولة... كل شيء الا كركوك». وكان يلمح الى الثروة النفطية في منطقة كركوك.
قبل اسابيع من ذلك اللقاء كانت بغداد استقبلت وفدا كرديا برئاسة جلال طالباني. وخلال نقاش حول كركوك سمع الوفد من طارق عزيز جملة بالغة القسوة وهي «ليس لكم في كركوك غير حق البكاء عليها».
على مدى عقود كانت كركوك خطا احمر. لا يستطيع حاكم بغداد التنازل عنها ولا يستطيع القادة الاكراد التسليم بخسارتها الى الابد. واهمية كركوك لا تقتصر فقط على ثروتها. لاسمها في وجدان الاكراد «رنة تكاد تعادل رنة اسم القدس في وجدان الفلسطينيين». حاول صدام حسم المسألة باسلوب الضربة القاضية عبر تهجير الاكراد والتعريب القسري. لم يدر في باله ان اخطاء نوري المالكي ستسهل لاحقا عودة كركوك الى الحضن الكردي.
كانت كركوك ايضا خطا احمر بالنسبة الى الدول المجاورة للعراق التي تضم اقليات كردية. كان من اهداف اللقاءات الثلاثية الايرانية - التركية - السورية التي عقدت في التسعينات منع قيام كيان كردي او على الاقل منع اي كيان كردي محتمل من استعادة كركوك التي تضم خليطا من الاكراد والعرب والتركمان. هذا لا يلغي ان ايران ساعدت الاكراد لاستنزاف نظام صدام. وان سورية حافظ الاسد فعلت شيئا مشابها. لكن المساعدة كانت بهدف اشغال صدام او اسقاطه وليست بهدف تسهيل قيام كيان كردي.
اعتاد حاكم بغداد ارسال الجيش لـ «تأديب» الاكراد. لكن ارتكاباته توفر لهم احيانا فرصا تاريخية. كان اشراك الاكراد ضروريا لاطاحة صدام حسين. التقطوا الفرصة التاريخية. يشاركون شرط قيام عراق ديموقراطي وفيدرالي. وهذا ما حصل. سيرتكب نوري المالكي خطأ مكلفا خلال ولايتيه الصاخبتين. تجاهل المادة 140 من الدستور التي تنص على معالجة قضية المناطق المتنازع عليها عبر التطبيع والتعويض ثم الاستفتاء.
اغلب الظن ان المالكي يشعر في قرارة نفسه بما اعترف به صدام في لقائه مسعود وهو ان كركوك كردية ونتائج الاستفتاء معروفة سلفا. دفع المالكي المادة المذكورة الى الثلاجة كمن يبعد كأس السم عن شفتيه. اصابته اعراض الحاكم العراقي القوي. حاول لي ذراع اقليم كردستان ثم حاول لي ذراع المكون السني. خسر الاثنين فاطلت «داعش» في الموصل. انهار الجيش العراقي في المناطق المتنازع عليها فتقدمت البيشمركة للدفاع عنها. اعلن بارزاني عن اجراء استفتاء حول مستقبل كركوك وهو ما كان يفترض ان يفعله المالكي منذ سنوات.
اساء نوري المالكي تقدير عوامل عدة. جاذبية الازدهار الذي يعيشه اقليم كردستان بالنسبة الى اكراد المناطق المتنازع عليها. والجملة التي اطلقها رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان لدى زيارته اقليم كردستان ومفادها ان الزمن الذي كان يمكن فيه انكار حقوق الاكراد قد ولى. والعامل الثالث ان بارزاني كان في طليعة من شجعوا اردوغان على فتح صفحة جديدة مع عبد الله اوجلان واكراد تركيا.
يتوهم المستبد انه يحرس الخريطة. ينسى ان القهر والاقصاء يحولانها سجنا ويغريان الاقليات بالفرار عند اول سانحة. لا مصلحة للاكراد في الفرار من العراق الغني اذا كان ديموقراطيا وفيدراليا وكانوا فيه شركاء كاملين. قصة كركوك تستحق التوقف عندها. على دول المنطقة تحسس خرائطها. تحتاج الخرائط الى صيانة دائمة وعلى قاعدة الشراكة والانصاف. اكراد سورية يعيشون اليوم في ظل «ادارات ذاتية». لا يكفي ان يقول الحاكم «كل شيء الا كركوك». عليه تجرع سم الشراكة باكرا للاحتفاظ بها.
ادخل العامل كأسين من الشاي. وضع الاول امام السيد الرئيس والثاني امام ضيفه. سارع صدام حسين الى تبديل موقعي الكأسين. كان يريد القول لمسعود بارزاني ان الشاي ليس مسموما وانه لا يغدر بضيوفه. كان ذلك في 1991. اي بعد سحق انتفاضة الاكراد، وبعد سنوات من حملة الانفال وقصف حلبجة.
كان اللقاء صعبا ورهيبا. قال صدام لضيفه: «اعرف انك اتخذت قرارا صعبا». رد مسعود: «جئتك سابحا في بحر من الدم لكن اذا كانت هناك فرصة لحل مشرف فانني مستعد». وكان يشير الى مقتل 180 الف كردي، بينهم ثمانية الآف من عشيرته وثلاثة من اشقائه. لنترك تفاصيل ذلك اللقاء. ما يعنينا منه اليوم جملة مذهلة فاجأت الزائر نفسه. قال صدام: «نحن لا ننكر ان كركوك كردية لكننا لا يمكن ان نعطيكم اياها لانها قاعدة جاهزة لاعلان دولة... كل شيء الا كركوك». وكان يلمح الى الثروة النفطية في منطقة كركوك.
قبل اسابيع من ذلك اللقاء كانت بغداد استقبلت وفدا كرديا برئاسة جلال طالباني. وخلال نقاش حول كركوك سمع الوفد من طارق عزيز جملة بالغة القسوة وهي «ليس لكم في كركوك غير حق البكاء عليها».
على مدى عقود كانت كركوك خطا احمر. لا يستطيع حاكم بغداد التنازل عنها ولا يستطيع القادة الاكراد التسليم بخسارتها الى الابد. واهمية كركوك لا تقتصر فقط على ثروتها. لاسمها في وجدان الاكراد «رنة تكاد تعادل رنة اسم القدس في وجدان الفلسطينيين». حاول صدام حسم المسألة باسلوب الضربة القاضية عبر تهجير الاكراد والتعريب القسري. لم يدر في باله ان اخطاء نوري المالكي ستسهل لاحقا عودة كركوك الى الحضن الكردي.
كانت كركوك ايضا خطا احمر بالنسبة الى الدول المجاورة للعراق التي تضم اقليات كردية. كان من اهداف اللقاءات الثلاثية الايرانية - التركية - السورية التي عقدت في التسعينات منع قيام كيان كردي او على الاقل منع اي كيان كردي محتمل من استعادة كركوك التي تضم خليطا من الاكراد والعرب والتركمان. هذا لا يلغي ان ايران ساعدت الاكراد لاستنزاف نظام صدام. وان سورية حافظ الاسد فعلت شيئا مشابها. لكن المساعدة كانت بهدف اشغال صدام او اسقاطه وليست بهدف تسهيل قيام كيان كردي.
اعتاد حاكم بغداد ارسال الجيش لـ «تأديب» الاكراد. لكن ارتكاباته توفر لهم احيانا فرصا تاريخية. كان اشراك الاكراد ضروريا لاطاحة صدام حسين. التقطوا الفرصة التاريخية. يشاركون شرط قيام عراق ديموقراطي وفيدرالي. وهذا ما حصل. سيرتكب نوري المالكي خطأ مكلفا خلال ولايتيه الصاخبتين. تجاهل المادة 140 من الدستور التي تنص على معالجة قضية المناطق المتنازع عليها عبر التطبيع والتعويض ثم الاستفتاء.
اغلب الظن ان المالكي يشعر في قرارة نفسه بما اعترف به صدام في لقائه مسعود وهو ان كركوك كردية ونتائج الاستفتاء معروفة سلفا. دفع المالكي المادة المذكورة الى الثلاجة كمن يبعد كأس السم عن شفتيه. اصابته اعراض الحاكم العراقي القوي. حاول لي ذراع اقليم كردستان ثم حاول لي ذراع المكون السني. خسر الاثنين فاطلت «داعش» في الموصل. انهار الجيش العراقي في المناطق المتنازع عليها فتقدمت البيشمركة للدفاع عنها. اعلن بارزاني عن اجراء استفتاء حول مستقبل كركوك وهو ما كان يفترض ان يفعله المالكي منذ سنوات.
اساء نوري المالكي تقدير عوامل عدة. جاذبية الازدهار الذي يعيشه اقليم كردستان بالنسبة الى اكراد المناطق المتنازع عليها. والجملة التي اطلقها رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان لدى زيارته اقليم كردستان ومفادها ان الزمن الذي كان يمكن فيه انكار حقوق الاكراد قد ولى. والعامل الثالث ان بارزاني كان في طليعة من شجعوا اردوغان على فتح صفحة جديدة مع عبد الله اوجلان واكراد تركيا.
يتوهم المستبد انه يحرس الخريطة. ينسى ان القهر والاقصاء يحولانها سجنا ويغريان الاقليات بالفرار عند اول سانحة. لا مصلحة للاكراد في الفرار من العراق الغني اذا كان ديموقراطيا وفيدراليا وكانوا فيه شركاء كاملين. قصة كركوك تستحق التوقف عندها. على دول المنطقة تحسس خرائطها. تحتاج الخرائط الى صيانة دائمة وعلى قاعدة الشراكة والانصاف. اكراد سورية يعيشون اليوم في ظل «ادارات ذاتية». لا يكفي ان يقول الحاكم «كل شيء الا كركوك». عليه تجرع سم الشراكة باكرا للاحتفاظ بها.